فراس الشوفي
السبت 30 آب 2025
يعكس استعجال برّاك وتقلّب مواقفه، الميل إلى عقد الصفقات السريعة لدى الجمهوريين (أ ف ب)
هزّت المواقف التي نقلتها صحيفة «واشنطن بوست» قبل عشرة أيام، على لسان الموفد الأميركي إلى سوريا والسفير في أنقرة، توم برّاك، «المُسلّمات» الوهمية التي جرى تعميمها خلال الأشهر الماضية، حول تمسّك الولايات المتحدة بوحدة سوريا، إذ بحسب الصحيفة الأميركية، قال برّاك أمام مجموعة من المراسلين في تموز الماضي: «إن سوريا قد تحتاج إلى النظر في بدائل من الدولة المركزية الصارمة. لا أتحدّث عن اتحاد فيدرالي بالمعنى الحرفي، بل شيء قريب منه، يتيح للجميع الحفاظ على كرامتهم وثقافتهم ولغتهم، بعيداً عن أيّ تهديد من الإسلاموية. الجميع متّفق على أنه يجب إيجاد طريقة أكثر عقلانية لإدارة شؤون البلاد».
نسف صديق ترامب ورجل الأعمال المقرّب من قطر، كل كلامه السابق عن «سوريا الموحّدة المركزية» و«الرائعة» التي على لبنان أن يتمثّل بها، ولا سيّما خطابه الأخير في دمشق بداية شهر آب الحالي، وحطّم كلّ شعارات نظام الرئيس المؤقّت أحمد الشرع، وعاكس تصريحات كبار المسؤولين في التحالف التركي ـ العربي الداعم له. على أنه وفقاً لتجربة الأشهر الماضية، لا يُعتدّ كثيراً بثبات برّاك على موقف واحد.
فقد بات الارتباك والتخبّط في التقدير والموقف، سمة من سمات موفد الرئيس الأميركي، ومصدراً لانتقاد السياسة الخارجية لترامب في ملفات الشرق الأوسط، من الديمقراطيين والجمهوريين. لكنّ برّاك يدرك ما يرضي أصدقاءه من الدول الداعمة للشرع، ويعرف جيّداً ما يريده ترامب وما يحبّ أن يسمعه وجمهوره، حول أن «سوريا مستقرة وموحّدة» برعايته. وبالتالي، يمكن للقوات الأميركية التابعة للقيادة الوسطى أن تتركها وشأنها، وتنسحب منها لتوفير بضعة ملايين من الدولارات.
يعكس استعجال برّاك وتقلّب مواقفه، ملامح عامة في سياسة النفس القصير والميل إلى عقد الصفقات السريعة لدى الجمهوريين من دون الدخول في التفاصيل أو المتابعة الدقيقة للحلفاء والخصوم، وكذلك التبدّل السريع في الموقف والتخلي عن الصفقات مع تبدّل الظروف. فالرئيس جورج بوش الأب عقد صفقة «سريعة» حول لبنان والعراق في عام 1990 مع الأسد الأب، في حين تخلّى بوش الابن عن عقد صفقة مع الأسد الابن بعد عام 2003، مع ظهور تعقيدات من جانب سوريا، ورغبة إسرائيل في تصعيد الضغط على الرئيس بشار الأسد.
أمثلة كثيرة على التغيير السريع في موقف إدارة ترامب وانصياعها للظروف المتبدّلة، خصوصاً إذا كانت إسرائيل هي المبادرة، وبالأخص في السياق التفاوضي الذي قاده ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس إلى الشرق الأوسط مع إيران، والذي انتهى بمشاركة الولايات المتحدة في الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية مع إسرائيل، بعد شهرين من التطمينات والإعلانات الإيجابية.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الملفّ الأوكراني، الذي لم ينجح ترامب حتى الآن في إحداث أي اختراق فيه، مع عجزه عن إقناع الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين، والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بالتنازل عن أيّ من شروطهما لوقف الحرب. حتى إن ترامب بات يشعر بأن القادة الأوروبيين يتلاعبون به، واضطر مراراً إلى مجاراتهم في الملف الأوكراني والتراجع عن طموحاته إلى عقد صفقة سريعة يجيّرها في حسابه قبل الانتخابات النصفية.
كلام برّاك لم يأت من فراغ سياسي، ولا من صحوة بعد سياسة الغسل المستمرة لصفحة النظام الجديد في سوريا، إنّما انبثق من مجمل الوقائع والأحداث التي تراكمت على الأرض السورية منذ 8 ديسمبر 2024، ولا سيّما «غزوة السويداء» الأخيرة، وما تبعها من تبدّلات دولية وإقليمية تجاه الشرع ونظامه، ومن مناخات رافضة لصفقة سريعة فوضوية في سوريا داخل المؤسسات الأميركية، ومن تأثير التصعيد الإسرائيلي المباشر.
في الولايات المتحدة اليوم، ثمّة تمايز كبير في الموقف بين الفريق الخاص بالرئيس ومعه جزء من الجمهوريين، وغالبية المؤسسات الأمنية والعسكرية ورموز مجلس الشيوخ تجاه الشرع ونظامه. ويكاد يكون برّاك، آخر المدافعين المؤثّرين عن الشرع قرب موقع القرار، لأسباب عامة وخاصة باتت غالبيتها معلومة، على رأسها سعيه لتنفيذ سياسة الرئيس وإرضاء تركيا التي يعمل على أراضيها، وهو ما ظهر في إزالة ترامب الجزء المتعلّق بالرئاسة من العقوبات الأميركية عن سوريا، وبقاء حزمة كبيرة من العقوبات على رأسها قانون قيصر، المعلّق مؤقّتاً حتى نهاية العام.
أزمة الشرع أن الذين عوّل عليهم لدعمه في تثبيت حكمه، يأخذون حاجتهم منه ويمضون
تعكس مواقف وزارة الخارجية الأميركية في بياناتها، وبحسب ما نقله عنها قائد قوات «قسد» مظلوم عبدي، موقفاً أميركياً أكثر وضوحاً من تصريحات برّاك المتخبّطة، مع تأكيد عبدي دعم الأميركيين لنظام فدرالي، وإشارة الخارجية الأميركية إلى الحاجة إلى نظام لا مركزي في سوريا. ما نقله عبدي عن الأميركيين، كرّره أيضاً شيخ عقل الدروز في سوريا، حكمت الهجري، الذي أكّد أن مطالبته بانفصال محافظة السويداء، تحظى بدعم أميركي وإسرائيلي وحتى عربي. لكن أقوى المواقف الأميركية، جاء على لسان النائب في مجلس الشيوخ الأميركي، إبراهيم حمادة، الذي أشار إلى أن الإدارة الأميركية تتبنّى طرح «قسد» لمستقبل سوريا، ناسفاً كل الاستعراضات التي يقوم بها النائب في مجلس النواب، جو ويلسون.
ومن الدبلوماسية إلى الاستخبارات والجيش، يؤشّر الدعم الأميركي المستمر لـ«قسد» ولـ«جيش سوريا الجديدة» الذي صار جزءاً من جيش النظام الناشئ، ومماطلة القيادة الوسطى الأميركية في الانسحاب من سوريا، إلى أن كلام برّاك في «واشنطن بوست» هو الموقف الأميركي الحقيقي، وأن محاولاته تعميم صورة وردية عن سوريا، ما هي سوى ذرّ للرماد في العيون، ومسعى لشراء الوقت حتى تتّضح الطريق وتتبلور البدائل.
وإذا كان موقف مديرة الاستخبارات الوطنية، تولسي غيبارد، معروفاً باعتبار الشرع ونظامه والحركات الجهادية بشكل عام، «جماعات إرهابية» لا يمكن الوثوق بها، فإن كلام مدير مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض، سيبستيان غوركا، المكرّر أخيراً في معهد «هدسون»، أعاد تأكيد حقيقة موقف المؤسسات. وتضاف إلى ذلك، خلافة الأدميرال براد كوبر للجنرال مايكل كوريلا في قيادة القيادة الوسطى للجيش الأميركي، وهما يحملان توجهات مشابهة ويتبنّيان سياسات قاسية تجاه التنظيمات الجهادية ويؤيدان دعم الأكراد وحمايتهم.
ومما لا شكّ فيه، أنْ لا أحد من هؤلاء، مستعدٌّ لتكرار مشهد الانسحاب الأميركي من أفغانستان بهيمنة «داعش» على البادية وتشكيل تهديد على المناطق التي تسيطر عليها «قسد»، وهذا يظهر بوضوح من التغطية الجوية التي لا تزال تحظى بها قوات الأخيرة (في الاشتباكات حول سد تشرين، حلّقت المروحيات الأميركية ريثما انتشرت تلك القوات بعد الانسحاب البري الأميركي، بعدما تأمّلت الفصائل التابعة للشرع والمدعومة من تركيا استعادة السيطرة على السد)، ومن استمرار وجود الأميركيين وانتشارهم في عدة قواعد - وإن بضجيج أقلّ -، مع معرفتهم باستحالة قدرة الشرع على السيطرة على كامل الجغرافيا السورية.
ويأتي الموقف الإسرائيلي، ولا سيّما كلام رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، قبل يومين، حول أن «إسرائيل تعرف من يحكم سوريا» وأنها «ستعمل على حماية الدروز وإقامة منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري»، بمثابة حسم لكفّة التباين في داخل الإدارة الأميركية لغير صالح الشرع وداعميه.
فإسرائيل، التي لطالما نظرت إلى الشرع كورقة ضغط على النظام السابق، وعالجت جرحاه ودعمته لضرب الجيش السوري السابق، لن تتعامل مع قائد «هيئة تحرير الشام» كشريك في إدارة الإقليم، بل كذريعة لتحقيق مآربها في سوريا وقضم أراضي الجنوب السوري وموارده والهيمنة الكاملة على هذا البلد، ولو أنها تفاوضه على اتفاقية أمنية لا تحتاج إليها.
قد لا يكون الموقف الأميركي والإسرائيلي مهمّاً في مسيرة الشرع، لو أن الأخير لم يستقوِ بالأميركيين والإسرائيليين على الشعب السوري بمختلف جماعاته ومناطقه منذ 11 عاماً. أزمة الشرع أن الذين عوّل عليهم لدعمه في تثبيت حكمه، وعلى رأسهم أميركا وإسرائيل، يأخذون حاجتهم منه ويمضون، ليتركوه كما هو، مكعّب إسمنت يغرق، ويجرّ معه بلداً وشعباً... وداعمين.